“الخربشة على الطاولات” سلوك شائع بين التلاميذ والطلبة في الفصول الدراسية بمختلف الأسلاك التعليمية، حيث يحبّر المتعلمون كتابات أو يرسمون رموزا وشعارات يدرجها البعض ضمن أساليب تزجية الوقت والتعبير عن الملل؛ فيما يعتبرها آخرون دلالات نفسية وسلوكية أكثر عمقا.
ويفتح هذا السلوك الباب أمام تساؤلات متعددة حول الدوافع النفسية الكامنة وراءها، وهل يرتبط باضطرابات نفسية محتملة أم يعد فقط شكلا من أشكال الهروب المؤقت من الروتين المدرسي. كما يطرح نقاشا حول سبل الحد من تأثير هذه الظاهرة على المناخ التربوي، وطرق توجيه التلاميذ والطلبة نحو أساليب تعبير بناءة وأكثر إيجابية.
تحليل نفسي سلوكي
هشام العفو، متخصص ومعالج نفساني، قال إن “الخربشة على الطاولات تفسر حسب نمط التفكير والتمثل الذهني للتلميذ المغربي، من خلال مجموعة من الزوايا السيكولوجية؛ أهمها التحليل النفسي الذي يعتبره كآلية دفاع لا واعية يلجأ إليها التلميذ بغرض التنفيس عن توتراته وانفعالاته الداخلية، والتخلص من دوافعه المكبوتة ومشاكله البين فردية والعلائقية، خصوصا في ظل بيئة قد تفتقر إلى التواصل العاطفي أو تمارس فيها السلطة التربوية بشكل صارم”.
وأشار العفو، في تصريح لهسبريس، إلى أنه “يمكن تفسير الخربشة على الطاولات أيضا من خلال النظرة السلوكية، حيث ينظر إلى هذا السلوك كشكل من أشكال التعزيز الذاتي الذي يمنح التلميذ شعورا بالتحكم أو التشويق في مواجهة الملل أو الرتابة في بعض الحصص الدراسية، خاصة مع غياب أنشطة محفزة أو تفاعلية وعدم إشراك التلميذ في بناء وصياغة التمثلات والمفاهيم”.
ولفت المعالج النفساني، الذي يترأس رابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب، إلى أهمية “استحضار البراديغم المعرفي الذي يعتبر الخربشة استراتيجية غير واعية لتنظيم الانتباه أو دعم التركيز أو إعادة بناء للتمثلات الذهنية حول الذات والمحيط والمستقبل؛ فيستخدم الرسم أو النقش كوسيلة لتصفية الذهن أو تقليل التشتت، خصوصا لدى المتعلمين الذين يعانون من صعوبات في ضبط الانتباه”.
وأكد المتحدث أن “الخربشات لا تعتبر في حد ذاتها مؤشرا على اضطراب نفسي؛ بل تندرج غالبا ضمن السلوكيات التعبيرية العادية لدى الأطفال والمراهقين، خصوصا في المرحلة النمائية التي يعيشها كل واحد منهما، وكذا التغيرات الصعبة التي قد تقع”.
وأضاف هشام العفو أن “هذا السلوك قد يكون وسيلة للتنفيس أو التعبير غير المباشر عن مشاعر داخلية كالتوتر والملل، أو الرغبة في إثبات الذات أو ربما التعبير عن الإعجاب والانتماء إلى فريق أو إلى فئة معينة، وحتى للبحث عن الاعتراف بالذات، دون أن يرقى إلى مستوى الاضطراب المرضي”.
واستدرك قائلا: “لكن من منظور مرضي إكلينيكي، ينبغي الانتباه إلى السياق الذي تحدث فيه الخربشة وما تتضمنه في كثر من الأحيان إذا كانت مصحوبة بسلوكيات أخرى مقلقة؛ كالعزلة الاجتماعية والتهيج واضطرابات في النوم أو التعلم، فقد تشير إلى وجود اضطرابات مثل القلق والاكتئاب، أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة، ويمكن أن تتضمن أيضا مؤشرات دالة عن وجود أعراض اكتئابية حادة أو نزوع نحو السلوك الانتحاري أو حتى الانتماء الى فئة متطرفة على مستوى الفكر والاعتقاد والسلوك”.
تعبير أكبر من تخريب
ونبه هشام العفو إلى أنه “لا يمكن اعتبار الخربشة دليلا مرضيا في حد ذاتها؛ بل سلوكا قد يحمل دلالات تحتاج إلى قراءة شمولية. وهذا يقتضي لزاما التقييم الدقيق والتحليل المعمق على مستوى الدلالات السيكولوجية والسيميولوجية كما هو الحال عند ‘الغرافيتيا'”، مؤكدا في الوقت ذاته على ضرورة “الأخذ بعين الاعتبار السياق التربوي، والحالة النفسية العامة، والتطور النمائي للطفل أو المراهق، ووضعيتهما الأسرية والاجتماعية والصحية”، مع ضرورة توفير متخصص نفساني داخل المؤسسة التربوية لتشخيص ومتابعة وتحليل الحالات سواء باستباقها أو التدخل المباشر”.
وشدد المتخصص والمعالج النفساني على أن “معالجة الظاهرة تتطلب أولا قناعة واضحة وراسخة عند المسؤولين عن الشأن التربوي التعليمي، ثم بلورة مقاربة شمولية تدمج الأبعاد النفسية والتربوية والاجتماعية وغيرها، وعدم تصنيف هذا السلوك دائما على أنه تخريب ويعكس صورة سيئة وسوداوية على المتعلمين؛ بل قد يكون تعبيرا غير مباشر عن مشاعر أو احتياجات ودوافع مختلفة. لذا، فإن أول خطوة هي تبني نظرة استباقية تشخيصية لفهم الظاهرة ومقاربتها علميا”.
ودعا المتحدث إلى “تغيير نظرة المدرسة وتمثلها وتصورها لدى المتعلمين، وجعلها فضاء تعليميا تربويا حتى على مستوى البناء والهندسة، مع تخصيص حصص للرسم أو الكتابة الإبداعية والأنشطة التي تتسامى بالذات؛ مما يمنح التلاميذ متنفسا مشروعا لإفراغ شحناتهم النفسية والتعبير عن دوافعهم ومكبوتاتهم، إضافة إلى تنويع أساليب التدريس لتفادي الرتابة والملل، عبر إدماج تقنيات نشطة وتحفيزية تشرك التلميذ في العملية التعليمية، مع تعزيز التواصل بين الأساتذة والتلاميذ، لفهم خلفيات السلوك وتعزيز العلاقة التربوية”.
وأكد رئيس رابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب على ضرورة “دمج متخصصين نفسانيين مدرسيين داخل المؤسسات بشكل دائم، من أجل تأطير هذه السلوكيات وتحويلها إلى فرص للفهم والتوجيه، مع الاعتماد على تنظيم ورشات تطبيقية حول التعبير الإيجابي عن الذات، نظرا لأهميتها في تنمية الذكاء الانفعالي وترسيخ القيم المجتمعية وتأطير السلوك بشكل كبير؛ لأن الرسالة التي تتضمنها الخربشات في مجملها تحمل طلب الاعتراف والتقبل أكثر من أي شيء آخر”.
دوافع نفسية
ندى الفضل، أخصائية ومعالجة نفسية إكلينيكية، قالت إن “بعض التلاميذ يستخدمون الخربشة كوسيلة للتنفيس الانفعالي وتفريغ مشاعر مكبوتة كالغضب والقلق والملل، أو للتعبير عن الذات، في محاولة منهم لإثبات الوجود أو إيصال رسالة رمزية أو فنية أو حتى احتجاجية”.
ومن بين الأسباب التي تدفع التلاميذ والطلبة إلى الكتابة على الطاولات، ذكرت الفضل، في تصريح لهسبريس، “الملل أو فقدان الاهتمام”، موضحة أنه “عندما يكون الدرس غير مشوق أو لا يشد انتباه التلميذ يلجأ إلى الخربشة لتكسير الرتابة”، إضافة إلى”التقليد أو المحاكاة، باعتبارهما سلوكا مكتسبا من الأقران، خاصة إذا كان ينظر إليه كنوع من التمرد المرح”.
وربطت الأخصائية والمعالجة النفسية الإكلينيكية الخربشة على الطاولات، في بعض الأحيان، بـ”ضعف الرقابة الذاتية، خاصة إذا تعلق الأمر ببعض التلميذات والتلاميذ الذين لم يطوروا بعد القدرة على ضبط النفس أو احترام الممتلكات العامة”.
وعن إمكانية اعتبار ذلك السلوك بمثابة نتيجة عن اضطراب نفسي، قالت ندى الفضل “ليس بالضرورة أن يكون ذلك صحيحا، لأنه في معظم الحالات يعتبر هذا السلوك مجرد تصرف عابر مرتبط بالبيئة أو المرحلة العمرية؛ لكن في بعض الحالات النادرة قد يكون مؤشرا على مشكلات أعمق مثل اضطرابات السلوك أو الشخصية، خاصة إذا كان مصحوبا بأفعال عدوانية أو تمردية واضحة”.
مقترحات علاجية
ولمعالجة هذه الظاهرة، دعت ندى الفضل إلى”التوعية والتحسيس، من خلال تنظيم أنشطة توعوية حول احترام الفضاء المدرسي وأهمية الحفاظ على الممتلكات”، و”تنظيم دورات تكوينية للأساتذة من أجل معرفة طريقة التعامل مع السلوكيات التي تصدر من لدن التلاميذ”، و”إشراك التلاميذ في العناية بالبيئة الدراسية، كمشاريع تزيين الأقسام بمشاركة التلاميذ مثلا”.
وأكدت الأخصائية والمعالجة النفسية الإكلينيكية أهمية “تحفيز التعبير الإبداعي، عبر توفير بدائل مثل دفاتر الرسم، وحوائط مخصصة للرسم أو التعبير الفني داخل القسم”، و”تحسين جاذبية الدروس”، موضحة أنه “كلما كان الدرس مشوقا وتفاعليا، قلّت فرص التلاميذ للانشغال بالخربشات”.
ودعت الأخصائية أيضا إلى “المتابعة النفسية للحالات المتكررة؛ لأن التلميذ الذي يكثر من هذا السلوك بشكل لافت، ينبغي عرضه على مستشار نفسي أو أخصائيين في المجال النفسي”، و”اعتماد عقوبات تربوية هادفة، كتحميل التلميذ مسؤولية تنظيف الطاولة بشكل متكرر مثلا؛ لكن بأسلوب تربوي لا عقابي”.