قال عبد الله بوصوف، الخبير في العلوم الإنسانية، إن مشروع “القرآن في أوروبا” يعيد النقاش حول علاقة الإسلام بالغرب، مشيرا إلى أهمية إشراك المغرب في صياغة السردية الجديدة، مضيفا أن “كل عناصر الحقيقة التاريخية والعلمية تستوجب حضور المغرب كفاعل مهم في إعادة كتابة تاريخ العلاقة بين الإسلام والغرب المسيحي”.
وذكر عبد الله بوصوف، في مقال له بعنوان “عندما يمول الاتحاد الأوروبي سردية جديدة لعلاقة الإسلام بالغرب”، أن “إشراقات الأندلس والحضور المغربي الروحي والحضاري لم تُستحضر”، موضحا أن “تواجد مكتبة السلطان مولاي زيدان بإسبانيا وتاريخ استقبال المغرب للفارين من محاكم التفتيش يُقوّيان فكرة إشراك العنصر المغربي”، متمنيا ضم جامعة القرويين إلى المشروع.
نص المقال:
بداية، لا أعتقد أن توقيت نشر موضوع يتطرق لمشروع أكاديمي/بحثي حول “القرآن في أوروبا” وبدعم مالي كبير، حوالي عشرة ملايين يورو، من طرف المجلس الأوروبي للبحث، هو صدفة خالصة؛ إذ تزامن ظهور مقال “لو جورنال دو ديمانش” الفرنسي مع احتفالات المسيحيين بأعياد الصفح (شهر أبريل 2025)، وهو ما كان مناسبة للعديد من السياسيين والإعلاميين، خاصة من اليمين واليمين المتطرف، للعزف على وتر الهوية المسيحية لأوروبا، ونددوا بصرف الاتحاد الأوروبي أموال دافعي الضرائب الأوروبيين من أجل خلق سردية جديدة تضر بالهوية المسيحية، وتُمجد الكتاب المقدس للمسلمين، ورفعوا شعار أن أوروبا هي يونانية التفكير، ورومانية القانون والحقوق، ومسيحية القلب.
ورغم أن هذا المشروع البحثي عرف انطلاقته منذ 2019 ويمتد إلى غاية مارس 2026، إلا أنه أعاد النقاش اليوم حول علاقة الإسلام بالغرب المسيحي، وأمجاد معركة ليبانتو يوم 7 أكتوبر 1571 وهزيمة أسطول العثمانيين أمام التحالف المقدس، وغير ذلك من المحطات التاريخية المفصلية.
لكن لا بد من الإشارة هنا إلى طبيعة وصفة القائمين على هذه الدراسة المهمة حول دور وتأثير القرآن الكريم في الثقافة والدين بأوروبا بين سنوات 1150 و1850، وخاصة جامعة نابولي الشرق الإيطالية، وجامعة نانت الفرنسية، والدكتورة نعيمة عفيف عن جامعة كوبنهاغن الدنماركية، والدكتورة ميرسيدس غارسيا أرينال عن جامعة مدريد؛ فكلهم يشتركون في الاهتمام والبحث الأكاديمي باللغة العربية والقرآن الكريم والتاريخ، بالإضافة إلى لائحة من جامعات عالمية كشركاء وداعمين، مع التذكير بوجود مراكز بحث أوروبية عديدة، سواء بفرنسا (Institut Montaigne) أو إسبانيا (Réal Instituto Elcano) أو بلجيكا (Fondation Roi Baudouin)، حيث قامت، قبل هذا التاريخ، بدراسات حول الإسلام وأثارت بعض الإشكاليات كالحجاب مثلًا.
وعندما نقول إن موضوع الدراسة هو صياغة سردية جديدة أو كتابة ثانية لتاريخ علاقة الإسلام بالغرب المسيحي، فإن هذا يدعونا للوقوف طويلًا لإعادة شريط نتائج السردية الحالية، ومحطات حرب أكتوبر 1973، والحرب الأفغانية، والثورة الإيرانية، وضربات 11 شتنبر، ثم الهجمات الإرهابية بأوروبا منذ سنة 2015؛ حيث الأحكام الجاهزة عن المسلم كمتهم رئيسي في كل مآسي الأوروبيين، ومنها الإرهاب طبعًا.
وهذا يعني أيضًا أن السردية المنتظرة ستتحكم في علاقات الغرب المسيحي مع الإسلام والمسلمين لمدة طويلة.
المثير أن السجال التاريخي والإعلامي والسياسي الحالي حول مشروع “القرآن الأوروبي” قد استحضر فقط معركة ليبانتو سنة 1571، ولم يستحضر إشراقات الأندلس المسلم، والحضور المغربي القوي على المستوى الروحي الديني أو السياسي والحضاري، خاصة بتواجد الدكتورة ميرسيدس غارسيا، وهي الخبيرة والمؤرخة وصاحبة كتاب “رجل العوالم الثلاثة” عن اليهودي المغربي صامويل بالاش، وكتاب “أحمد المنصور، بداية المغرب المعاصر”، كأحد أهم السلاطين المغاربة!
وكم كانت أمنيتنا كبيرة بضم جامعة القرويين إلى لائحة الجامعات الشريكة في مشروع “القرآن الأوروبي”، باعتبارها أقدم جامعة في العالم، ولإحتضانها أغلب علماء وفقهاء وفلاسفة المغرب والأندلس.
وما يقوي فكرة إشراك العنصر المغربي في صياغة السردية الجديدة لعلاقة الإسلام بالغرب المسيحي، هو التاريخ المشترك مع الإسبان والبرتغال في الأندلس، ومحطات المعارك، واستقبال الفارين، مسلمين ويهود، من محاكم التفتيش في القرن الخامس عشر.
أضف إلى هذا تواجد كنوز مكتبة السلطان مولاي زيدان السعدي التاريخية بمكتبة الإسكوريال بمدريد.
لكل هذا وغيره، أعتقد أن كل عناصر الحقيقة التاريخية والعلمية تستوجب حضور المغرب كفاعل مهم في إعادة كتابة تاريخ العلاقة بين الإسلام والغرب المسيحي.
وقد لا تسعفنا هذه المساحة الضيقة للحديث عن تاريخ وطبيعة علاقة الإسلام بالغرب المسيحي، ومئات الإنتاجات الفكرية المسيجة بالإيديولوجيات والمنافع الجيو-سياسية والاقتصادية؛ لأننا نرى أن للحديث عن هذه العلاقة يجب أولًا التذكير بعلاقة أوروبا نفسها بالدين المسيحي بصفة عامة، وما عرفته فترة الإصلاح الديني من حروب دينية طويلة كحرب الثلاثين سنة، التي قُتل فيها 12 مليون شخص، أغلبهم من ألمانيا، وحرب التسع سنوات بفرنسا بين الكاثوليك والبروتستانت، اغتيل فيها الملك هنري الرابع الملقب بالملك الصالح، وقرارات ملكيْ فرنسا لويس 13 و14، وغير ذلك. ثم عهد نابليون وطرحه “المسألة اليهودية” وأسئلته 12 لمجلس الوجهاء، ثم تعيين “السهندرين الأكبر”، وحرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا.
بعد هذا، يجب الحديث ثانيًا عن علاقة الغرب المسيحي بالإسلام من خلال الحملات الصليبية، وزيارة القديس فرانسيس أسيزي للملك الكامل بمصر، ثم الحملة الفرنسية على مصر، ومشاريع الاستشراق والاستعمار.
بمعنى آخر، إنه لا بد من استحضار كل هذه التراكمات التاريخية والحضارية مهما بلغت درجة قساوتها بين شعوب بلدان الإسلام والغرب المسيحي عند كل قراءة جديدة أو مشروع إعادة كتابة تاريخ هذه العلاقة، كما لا يمكن للغرب المسيحي كتابة سردية جديدة مستعينًا بمفكريه وقادته الدينيين ومراكز البحث بعيدًا عن شريكه الآخر، أي المسلم، سواء بتغييبه أو إقصائه.
وحتى نكون أكثر موضوعية وجدية ونبتعد عن الاصطفاف العاطفي، يجب أن نضع عشرات الأسئلة حول إنتاجاتنا الفكرية والأكاديمية، وأعمال الترجمة، وخزائن مخطوطاتنا، ومتاحفنا.
كما يجب سؤال مثقفينا المسلمين المقيمين بالغرب المسيحي، ومسؤولي المؤسسات الدينية بأوروبا، عن تفاعلهم مع هكذا مشاريع ودراسات، كنداء رئيس المجلس الأوروبي السابق شارل ميشيل لخلق معهد تكوين الأئمة، أو تقرير المجلس الأوروبي حول الإسلاموفوبيا، أو خطاب أنجيلا ميركل بالبرلمان الأوروبي، وخطاب ماكرون حول الانعزالية الإسلامية.
وهل عدد مراكزهم الخاصة بالتفكير والبحث وإنتاج المعرفة كافٍ للعب دور مفصلي في النقاش الفكري والإعلامي وفي إعادة كتابة ثانية للتاريخ؟ لأنه حان وقت وقف نزيف الفرصة الضائعة في صياغة سرديات تحدد إحداثيات العيش المشترك، والاحترام المتبادل، وتقبل اختلاف الآخر في علاقة الإسلام بالغرب المسيحي.
ولأن الموضوع يستحق المزيد من التفكير والتحليل، سنعود بمساحة أكبر وأعمق لتقريب صورة الإسلام بالغرب المسيحي.