أخبار عاجلة
أسعار الدينار الكويتى في مصر اليوم الأحد -
أسعار الخضار والفاكهة اليوم الأحد -

فنادق مدينة فاس القديمة .. حين يسكن التاريخ بين الطابق السفلي والسطح

فنادق مدينة فاس القديمة .. حين يسكن التاريخ بين الطابق السفلي والسطح
فنادق مدينة فاس القديمة .. حين يسكن التاريخ بين الطابق السفلي والسطح

مثلت الفنادق في فاس القديمة، كما في باقي مدن شمال أفريقيا العتيقة، مرافق وإقامات هي دعامات للنشاط التجاري في هذه المدن. فهي تنفرد بطابع عمراني يميزها عن باقي المؤسسات الدينية منها والاجتماعية. نلاقي هذه الفنادق في كل الأحياء كجز من المنظومة التجارية والصناعية والاجتماعية للمدينة، كما أنها مثلت دور الوسيط في علاقة المدينة بعالمها القروي، لوجودها قريبة من البوابات الكبرى. فمن خلال البحث الجغرافي والاجتماعي الهام والدقيق لمرافق فاس القديمة، الذي أنجزه الباحثان الألمانيان أنتون إيشا وأويغن فيرت سنة 1992 اتضح أن وجود هذه الفنادق: “لم يكن موزعا على المدينة عبثا ودون حركة، بل كان مرتبا بعناية في تنظيمها الاقتصادي. فالخريطة البيانية للفنادق في مدينة فاس القديمة لسنة 1938 لجي مرتست تتوافق كذلك مع تلك الموجودة على خريطتنا. ذلك أن قائمة شيما (نموذج يسمى المدير) لسنة 1930، تشير إلى أن للمدينة القديمة 135 فندقا، وحسب مراجعة ميدانية نقدية للقائمة والتقييم التجريبي، لم يتبق منها، بما فيها الفنادق الأنقاض المغلقة، إلا 124”.

لم يكن وضع الفنادق في القرن السادس الميلادي، في فترة الحكم الوطاسي، كما أشار إليه الباحثان الألمانيان، فالحسن الوزان في كتابه الشهير “وصف إفريقيا” يقول إن عدد الفنادق في فاس وصل إلى 200 فندق، ويصف هذه المباني بأنها: “في غاية الإتقان، بعضها فسيح جدا، كالتي تقع بجوار الجامع الكبير (أي القرويين)، وتتكون كلها من ثلاثة طوابق، منها ما يشتمل على مئة وعشرين غرفة، ومنها ما يشتمل على أكثر من ذلك. وفي كل فندق صهريج ومضأة ببالوعاتها لاستفراغ القدرات، ولم أر في إيطاليا أبنية مثلها، إلا مدرسة الإسبانيين الموجودة في بولونيا. وقصر الكاردنال جورج في رومان، وتفتح كل الأبواب على الممر”.

مشترك بين الإنسان والحيوان

لقد تنوعت استعمالات هذه الفنادق واختلفت وظائفها مع مرور الزمن. فمنها ما هو خاص بالحيوانات مثل البغال والحمير، وقديما الجمال والخيول، كأداة نقل البضائع وكل حاجيات السكان سواء داخل أزقة المدينة ودروبها أو إلى أطرافها حيث يتم شحنها من هناك إلى خارج المدينة، ومنها ما هو خاص لإيواء الإنسان، كالتي توجد في وسط الأحياء، ومنها ما هو مشترك بين الإنسان والحيوان حيث يقتصر البهو السفلي على الحيوانات والطابق أو الطوابق العلوية للإنسان. وعلى الرغم من نتانة رائحة فضلاتها في الطابق الأرضي، إلا أنه هذه الحيوانات تساهم خاصة في فصل الشتاء في منح الساكنة العلوية نوعا من الحرارة التي تفرزها أجسادها.

في المقابل، هناك فنادق خاصة بالحرفيين وأصحاب المهن اليدوية، ومنها ما يستعمل دُورا لسلع تجارية كبيرة للأثواب والسلع المستوردة مثلما نلاقيه في دائرة رحبة قيس أو الديوان أو الصاغة، وهذه الفنادق في غالبيتها مكونة من طابق واحد، ففندق الصاغة مثلا، الذي يعود بناؤه إلى سنة 1750 ويتكون من ثلاثة طوابق، كان ولا يزال مستودعا لبضائع تجار المحيط، بينما فندق القطانين بطابقين هو حكر على المهن اليدوية في الأعلى، ومتاجر للبيع في الأسفل. وتخصص فندق التطوانيين قبالة باب عمر بجامع القرويين لإيواء التجار التطوانيين القادمين إلى فاس. ومنها ما هو خاص بتجارة المواد الغذائية كالزيت والزيتون والخليع والسمن؛ يطلق على هذه الفنادق اسم “قاعة السمن”.

الفندق نموذج عمراني

فهذه الفنادق تعد من أقدم مرافق المدينة، وأغلبها في ملك الأحباس الدينية أو تمتلك نصفها أو لها فيها جزء محدد. ومن هذه الفنادق ما عرف تحولات حسب الحاجة، مثل فندق النجارين الذي بناه الأمين عبد الخالق عديل سنة 1711، فقد عرف هذا الفندق توظيفات شتى، من مقر لأمانة التجار، إلى دار من أهم مراكز المدينة التجارية، ثم مستودعا هاما للسلطات المخزنية في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، حولته سنة 1940 السلطات الفرنسية إلى مركز للشرطة واستمر مركزا للشرطة الوطنية إلى السبعينات من القرن الماضي. كما كان في فترة الستينات مقر إقامة لجزء من طلبة جامعة القرويين، واليوم هو متحف للخشب.

لقد أثر نموذج هندسة بناية الفنادق على الكثير من مرافق المدينة، مثل دور إيواء المكفوفين، أو مستشفى الأمراض العقلية سابقا الذي أنشئ في فترة الدولة المرينية المعروف بمارستان أو سيدي فرج، ويشبه هذا المستشفى السابق من حيث شكله الهندسي وغرفه فنادق المدينة، وهو اليوم عبارة عن فندق يتقاسمه الحرفيون والتجار الصغار، أو ورشات مهنة النسيج والحياكة (الدرازة).

الفنادق سَدْيٌ نسيج المدينة

“الفندق”، يقول روجي لطرنو في كتاب (فاس قبل الحماية) هو “مصطلح من أصل يوناني.. يُستخدم، خاصةً في شمال إفريقيا، للإشارة إلى النزل التي يمكنها إيواء الحيوانات والأشخاص، على غرار القوافل أو الخانات في الشرق الإسلامي”. وقد وافقت المعاجم العربية ما نقله هنا لطورنو، وقال الأَصمعي عن الفندق: “أَحسبه معرباً”. وقال صاحب التهذيب “والفُنْدقُ بلغة أَهل الشام خان من هذه الخانات التي ينزلها الناس مما يكون في الطُّرقُ والمَدَائن”.

لقد لعبت هذه الفنادق دورا هاما في تنشيط الحركة التجارية في المدينة وفي غيرها من المدن العتيقة، وفي الأندلس، يشهد على ذلك الفندق الباقي حتى اليوم قائما ومزارا للسياح خارج مدينة غرناطة القديمة. لقد كان لكل من هذه الفنادق تخصص محدد، وهو ما يمنح التاجر القادم إلى فاس كسب الوقت ويسهل عليه مهمة البحث عن البضائع التي يريد إقتناءها.

فقد ساهمت هذه الفنادق في كل المجالات الاقتصادية والحيوية، كما أن المخصصة منها للتجارة كانت مزودة بكل الضروريات التجارية مثل ميزان كبير، وآخر صغير، ومقاسات للأثواب التي هي رهن إشارة التجار، ومزودة بالمرافق الضرورية مثل المراحيض، وبأحواض الماء الصالح للشرب. وكانت لهذه الموازين وظائف منها وزن البضائع المراد بيعها أو اقتناؤها، والتأكد من وزن البضاعة في حالة ارتياب التاجر أن يكون البائع قد خدعه في وزنها. وهذا نلاقيه جليا في فندق اللحم في راس الشراطين، حيث كان يتم بيع اللحوم القادمة من المجزرة. ومنها ما حول لاحقا إلى مؤسسات مالية، بنوك، مراكز للشرطة، البريد أو إلى غرفة صناعية كما هو الحال في فنادق حي القطانين والصاغة.

فضاءات الرذيلة والفضيلة

النوع الآخر من الفنادق التي عرفتها فاس، كانت سكنا دائما للرجال العزب أو لأناس لا أسر لهم. غير أن هذه الفنادق لم تكن دائما خالية من الشبهات، كفندق الوهراني في درب الجياف أو فندق الحدادين في الطالعة الكبيرة.

شبهات هذه الفنادق ليست وليدة الأمس فقط، بل هي قديمة وصفها حسن الوزان بقوله: “على الرغم من حسن هذه الفنادق وسعتها، فإنها تمثل سكنا كريها، لخلوها من الأسرة والفرش. فصاحب الفندق يقدم للمكتري غطاء وحصيرا ينام عليه. وإذا أراد هذا أن يأكل، عليه أن يشتري طعاما ويقدمه للطبخ. ولا يسكن الغرباء وحدهم هذه الفنادق، بل جميع الرجال الأرامل من أهل المدينة الذين لا منزل لهم ولا أهل لهم، يسكن الغرفة واحد منهم أو اثنان، ويعتنون بفراشهم بأنفسهم ويطبخون طعامهم. وأسوأ ما في هذا الأمر مساكنة رهط يقال لهم “القحبوات” وهم رجال يرتدون لباس النساء ويتحلون بحليهم. يحلقون لحاءهم ويقلدون النساء حتى في كلامهم. وماذا عساي أن أقول في أسلوب كلامهم؟ إنهم يتغنجون أيضا، ولكل واحد من هؤلاء الأنذال صاحب يتسراه ويعاشره كما تعاشر المرأة زوجها. ولغيرهم من هؤلاء الناس في الفنادق زوجات أخلاقهن كأخلاق المومسات في مواخير أوروبا. لهم أيضا ترخيص بشراء الخمر وبيعه دون أن يزعجهم موظفو الحاشية”.

غير أن هذا الوصف الذي قدمه الوزان في القرن السادس عشر ويقول: “ولو لا ما يلزم المؤرخ من قول الحق لأغفلت بكل سرور هذا القسم من وصفي وفضلت السكوت عن اللوم الذي لا تستحقه هذه المدينة التي نشأت فيها وترعرعت. والواقع أن مملكة فاس، إذا استثنينا هذا العيب، تضم أناسا هم أشرف خلق الله في إفريقيا كلها، ولا علاقة لهم إطلاقا بأرباب الفنادق الذين سبق ذكرهم”.

بعد ثلاثة قرون من وصف الوزان، يعطي الرحالة الألماني غيهارد غولفس صورة مغايرة عن هذه الفنادق، في رحلته الأولى إلى المغرب سنة 1862 فيقول: “إن عدد 200 منها (أي الفنادق) الذي قدمه ليون فيه مبالغة. ومثل هذه المآوي، كما يصفها ليون على أنها مآوي لغير المستقيمين، بل وتسكنها “القحبوات”، حيث يتردد عليها كذلك شخوص نسائية قادحة، لم يعد لها اليوم في فاس وجود، فعلا هناك خلف أبواب المدينة، الحي الذي من هذه الناحية له سمعة سيئة، لكن العهارة الفعلية في المغرب لا توجد عموما إلا في مكناس فقط” (مكناس القرن التاسع عشر).

الفندق حاضن الغرباء

فليس هناك حي سواء في عدوة القرويين أو في عدوة الأندلس أو في فاس الجديد يخلو من هذه المجمعات التجارية والحرفية، ومنها ما كان آيلا للسقوط أو دمرته الحرائق كما حصل مع فندق الشماعين، ومنها ما فقد وظيفته الأصلية وتحول إلى فضاء لمزاولة مهنة في الوقع ليس هو مكانها، مثل فندق قنطرة بوروس، الذي تحول بعد أن سقط جانب منه إلى مهنة تطهير جلود الحيوانات من صوفها ووبرها (اللباطة)، وعلى الرغم من روائح هذا الفندق الكريهة ومجاله العكر، فقد اجتذب فضاؤه الغرائبي المخرج محمد عهد بن سودة لتصوير بعض مشاهد مسلسله الخيالي عن حامة مولاي يعقوب “عن الكبريت”.

المآوي أو الفنادق كانت في فاس من الضروريات الحيوية في المدينة، فهي الإقامات المضيفات قبل إنشاء الفنادق الحديثة على يد الحماية الاستعمارية الفرنسية. في القديم كانت “الزوايا” هي المضيفات للغرباء، ولا تزال تمارس هذه الوظيفة للإيواء في بعض مناطق المغرب مثل تمكرود جنوب زاكورة، عند الزاوية الدرعية الناصرية، لكن الضيافة في الزوايا لا تمتد أكثر من ثلاثة أيام، وبعدها يجب على الغريب تدبر أمر إقامته على حسابه. هكذا فقد أصبح من الضروري إذن إنشاء مآوي من أجل إسكان الغرباء الذين يودون الإقامة في المدينة لفترة أطول. فالعدد الكبير من هذه الفنادق، التي تحدث عنها الرحالة والباحثون، يدل على تلك الحركة الكبيرة التي كانت تعرفها المدينة.

فبعض هذه الفنادق التي مهمتها الرئيسية إيواء الغرباء، يكون في مدخلها “قهويجي” (بائع القهوة والشاي)، مكلف بكل ما له علاقة بالفندق من إدارة وقبض إيجار السكن والتنظيف وكثيرا ما يكون هو المالك نفسه، وأحيانا مدير الفندق، أو مجرد مكتري فقط. يقول غيهارد غولفس: “أفضل تجهيز بكثير هي تلك الفنادق التي لا تؤوي إلا المسافرين الذين من غير حيوانات. فهي غالبا ما توجد وسط المدينة، حتى إن بعضها كان في “القيصرية” نفسها، المركز التجاري، الذي قد يطلق عليه الإنسان تقريبا “برصة” فاس. بناية كبيرة ذات عدة طوابق، وغرف هذه الفنادق رحبة، مطلية بالأبيض، الأرضية مفروشة “بالزليج” لكن غير ذلك فلا يوجد بها بطبيعة الحال شيء من الأثاث، بيد أن الميسور أو التاجر الثري، يحضر معه كل أثاثه أيضا، فراشا جيدا وزربية وبعض الأغطية وصناديق تتم ذلك الأثاث. كذلك لا تنقص الصفرة النحاسية “الصينية”، مع إبريق الشاي من معدن بريطانيا وستة فناجين شاي صغيرة. “بقرج”، معناه، غلاية لتسخين الماء فإنه لا يستغنى عنه أيضا”.

إحياء الرميم

لقد تمت إعادة تأهيل الكثير من هذه الفنادق وإصلاحها في حملة ترميم معالم فاس الأثرية والعمرانية التي انطلقت سنة 2013، حتى تعود فاعلة ضمن نسيج المدينة التجاري والصناعي، وتم الاحتفاظ بمعالمها التاريخية والأثرية، وحوّل عدد منها إلى متاجر صغيرة للصناعات اليدوية. كما زوّد بعضها بآليات حديثة كالمصعد الكهربائي، لتسهيل انتقال السياح الأجانب من البهو إلى السطح، كما هو في فندق القطانين. لقد أعيدت فعلا لهذه الفنادق هيبتها العمرانية، غير أن حركتها التجارية التي عاشتها في زمن ما بقيت بعيدة المنال، لكن من يدري قد تعيدها إليها الأيام من جديد. ففاس على مر العصور عرفت فترات من الصعود والانهيار ثم انبعاثا جديدا من الرميم.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بدلاء الزمالك أمام المصري في الدوري.. الجزيري يجاور إيشو
التالى التخطيط: مراجعة الحوكمة العامة تعتبر الأولى من نوعها في مصر