يعاني العديد من الشباب اليوم من مشاعر قلق متزايدة تجاه المستقبل، لا سيما في ما يتعلق بمسارهم الدراسي والمهني، حيث تتقاطع التطلعات الشخصية مع ضغوط الواقع ومتغيراته، فتُصبح بذلك مرحلة الانتقال نحو الحياة الراشدة متلازمة مع حالة القلق الذي يفرض نفسه كهاجس يومي لا يمكن تجاهله.
أمام هذا المعطى، تتبلور مجموعة من الأسئلة حول طبيعة هذا القلق وحدوده، وما إذا كان مجرد حالة عابرة أم مؤشرا على اضطراب يستدعي الانتباه، كما يثار الحديث عن دور الأسرة في مواكبة هذه المرحلة الدقيقة، وقدرتها على توفير الدعم الذي يساعد الأبناء على تجاوز مشاعر التوتر المرتبطة بالمستقبل الدراسي والمهني.
بين الطبيعي والمَرَضي
ندى الفضل، طبيبة أخصائية معالجة نفسية إكلينيكية، قالت إن “هذا القلق يتوزع بين الهواجس العامة المرتبطة بالاستقرار والنجاح، والقلق المهني المتعلق باختيار التخصص، أو الحصول على وظيفة، أو تحقيق الذات”، موضحة أن “القلق من المستقبل يُعد طبيعيا ومطلوبا في بعض الأحيان، فهو ما يدفع الإنسان للتخطيط والتفكير في خطواته القادمة”.
وأشارت الفضل، في تصريح لهسبريس، إلى أن القلق يكون صحيا عندما “يدفع الشاب لتحسين نفسه وتطوير مهاراته”، أو “يكون مؤقتا ومرتبطا بفترة انتقالية مثل التخرج أو البحث عن عمل”، و”لا يعيق الحياة اليومية أو يؤثر على العلاقات الاجتماعية”، و”يمكن السيطرة عليه بالتفكير المنطقي أو الحديث مع الآخرين”.
وأوضحت المتحدثة أن “القلق يصبح مَرَضيا حين يتجاوز الحدود الطبيعية ويبدأ بالتأثير سلبا على حياة الفرد”، مشيرة إلى أن من أبرز علاماته “التفكير المفرط والمستمر في المستقبل دون توقف”، و”الشعور بالعجز أو الفشل حتى قبل بدء المحاولة”، و”اضطرابات النوم أو فقدان الشهية أو تغيرات في المزاج”.
وذكرت الأخصائية ذاتها، ضمن العلامات أيضا، “العزلة الاجتماعية، وفقدان الرغبة في التفاعل أو القيام بالأنشطة اليومية”، و”أعراضا جسدية مثل تسارع ضربات القلب، التعرق، أو آلام المعدة دون سبب عضوي”، و”استخدام وسائل الهروب مثل الإفراط في الإنترنت أو التدخين أو غيره”.
ولتجاوز هذا النوع من القلق، نصحت المعالجة النفسية الإكلينيكية الأسر بمساعدة أبنائها في سن الشباب من خلال “الاستماع إليهم بدون إصدار أحكام، لأن الشاب يحتاج إلى من يسمعه بصدق، لا من يقلل من مشاعره أو يستهين بتحدياته”، و”تعزيز ثقتهم بأنفسهم عبر دعم الإيجابيات لديهم ومساعدتهم في التعرف على نقاط قوتهم”، و”فتح باب النقاش معهم حول المستقبل بتوازن، بدون تهويل أو ضغوط غير واقعية، بل بواقعية وتحفيز”.
ودعت ندى الفضل الأسر كذلك إلى “توفير بيئة داعمة نفسيا، وجعل المنزل مساحة آمنة يعبّر فيها الشاب عن مخاوفه”، و”تشجيع طلب المساعدة المتخصصة باللجوء إلى مختص نفسي عند ملاحظة أعراض قلق مرضي”، و”التركيز على الحاضر من خلال التوجيه نحو العمل بما هو متاح الآن، وتحديد أهداف صغيرة قابلة للتحقيق”.
من التحفيز إلى الاضطراب
محمد شفيق الوزاني، أخصائي نفسي إكلينيكي، قال إن “شباب اليوم يواجهون ضغوطا متزايدة بفعل تسارع وتيرة الحياة، ما يدفعهم إلى الانشغال المفرط بالمستقبل، وهو ما يؤثر على توازنهم النفسي وقدرتهم على الاستمتاع بالحاضر، ويجعل القلق يتسلل إلى مختلف مجالات حياتهم اليومية، خاصة إذا استوفى خمس مؤشرات إكلينيكية تُستخدم لتقييم شدته وحدته ومدته وتكراره وأثره العام”.
وأضاف شفيق الوزاني، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “القلق من المستقبل ليس سلبيا في كل الأحوال؛ إذ يمكن أن يكون محفزا نحو الاجتهاد، خاصة في فترات حاسمة كمرحلة الباكالوريا أو اختيار المسار الجامعي، غير أنه إذا استمر لفترة طويلة وبدأ يعيق الأداء الدراسي أو الاجتماعي، فإنه يتحول إلى معاناة نفسية حقيقية تستدعي تدخلا مهنيا”.
وأكد المتحدث أن “من أبرز المؤشرات التي تدل على أن القلق بلغ مستوى مرضيا، التفكير المستمر في المستقبل، وضعف التركيز، والعزلة الاجتماعية، وتدني الأداء الأكاديمي، إلى جانب شعور دائم بالفشل، وهذه كلها علامات على وجود تعب نفسي يستوجب العناية، وقد يصاحبه أيضا صداع مزمن، واضطرابات في النوم، وآلام عضلية وهضمية”.
وأوضح الأخصائي ذاته أن “هذه الأعراض النفسجسمية تعكس التأثير المزدوج للقلق على الجانبين النفسي والجسدي، ويُعد الاستغراق المفرط في التفكير المستقبلي في كل الأوقات – حتى خلال الأكل أو السياقة أو قبل النوم – مؤشرا على أن القلق خرج عن السيطرة وتحول إلى اضطراب نفسي يتطلب علاجا مختصا”.
ولفت الأخصائي النفسي الإكلينيكي إلى أن “دور الأسرة أساسي في دعم الأبناء، من خلال فتح قنوات التواصل وتشجيع الحوار حول المخاوف والتحديات، كما أن عرض نماذج ناجحة مرّت من الفشل يعزز الأمل ويحفّز الشباب على الاستمرار، فالفشل ليس نهاية الطريق بل تجربة ضرورية على طريق النجاح”.
وختم محمد شفيق الوزاني توضيحاته بالإشارة إلى أن “بناء الثقة بالنفس منذ الطفولة يُعد من أهم أسس الوقاية النفسية؛ إذ يمنح الشاب توازنا داخليا يساعده على مواجهة القلق، وإذا لاحظت الأسرة أن ابنها يعاني من قلق غير مبرر ومزمن، فاستشارة مختص نفسي تُعد خطوة مهمة لتفادي تطورات سلبية ومضاعفات أخطر”.